فصل: (فرع: التكبير بعد القضاء)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: قضاء صلاة العيد للجميع]

إذا فاتته صلاة العيد مع الإمام، وقلنا: إنه يجوز للمنفرد فعلها... صلاها ركعتين، كصلاة الإمام.
وقال أحمد: (يصليها أربعًا). وروي ذلك عن ابن مسعود.
وقال الثوري: إن شاء صلى ركعتين، وإن شاء صلى أربعًا.
وقال الأوزاعي: (يصلي ركعتين، ولا يجهر بهما، ولا يكبر كما يكبر الإمام).
وقال إسحاق: إن صلاها في الجبان... صلاها كصلاة الإمام، وإن لم يصلها في الجبان صلاها أربعًا.
دليلنا: قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «صلاة الفطر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان على لسان نبيكم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ولم يفرق، ولأنها صلاة، فاستوى في عددها الانفراد والجماعة، كسائر الصلوات.
وبالله التوفيق.

.[باب التكبير]

التكبير مسنون في العيدين.
وقال داود: (هو واجب في عيد الفطر).
وقال النخعي: إنما يفعل ذلك الحواكون.
وقال ابن عباس: (يكبر مع الإمام، ولا يكبر المنفرد).
وحُكي عن أبي حنيفة: أنه قال: (لا يكبر في الفطر، ويكبر في الأضحى).
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185].
قال الشافعي: (سمعت من أرضاه من أهل العلم يقول في قَوْله تَعَالَى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} [البقرة: 185] عند كماله).
وروى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج يوم الفطر والأضحى رافعًا صوته بالتهليل والتكبير، فيأخذ طريق الحدادين حتى يأتي المصلى».

.[مسألة:أوقات التكبير]

وأول وقت التكبير في عيد الفطر إذا غابت الشمس من آخر يوم من رمضان، وبه قال فقهاء المدينة السبعة.
وقال مالك، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق: (لا يكبر ليلة الفطر، وإنما يكبر عند ذهابه إلى المصلى)؛ لحديث ابن عمر.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185]، وإكمال العدة بغروب الشمس من آخر يوم من رمضان، ولا يمكن حمل الواو -هاهنا- على الجمع؛ لأن أحدًا لا يقول: إنه يكبر مع جمع العدة، فثبت أن المراد بها الترتيب، فيكون تقدير الآية: (ولتكملوا العدة، ثم لتكبروا الله).
وأما حديث ابن عمر: فلا يعني: أنه لم يكبر قبله.
وأما آخر وقت تكبير عيد الفطر: ففيه طريقان:
من أصحابنا من قال: فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: يسن التكبير إلى أن يبرز الإمام للصلاة، ثم ينقطع؛ لأنه إذا برز... بالناس حاجة إلى أن يأخذوا أُهبة الصلاة، ويشتغلوا بالقيام إليها، فينبغي أن ينقطع التكبير.
والثاني: يسن التكبير إلى أن يحرم الإمام بصلاة العيد، لأن الكلام مباح لهم في هذه الحالة، فالتكبير أولى.
والثالث: إلى أن يفرغ الإمام من صلاة العيد والخطبتين؛ لما روى الزهري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكبر في العيد حتى يأتي المُصلى. وحتى يقضي الصلاة». وهذا القول إنما يجيء فيمن لم يكن مع الإمام في الصلاة.
ومن أصحابنا من قال: المسألة على قولٍ واحدٍ، وأنه يكبر إلى أن يُحرم الإمام بالصلاة، قولًا واحدًا. وتأول ما سواه عليه.

.[فرع: التكبير في العيد]

ويسن في عيد الفطر التكبير المطلق: وهو أن لا يتحرى له وقت، وإنما يكبر الإنسان متى اتفق وقدر عليه في المنزل والسوق والمسجد وغيرها، وفي الليل والنهار، وهل يسن فيه التكبير المقيد، وهو أن يتحرى له أدبار الصلوات؟ فيه وجهان:
أحدهما: يسن له؛ لأنه عيد يسن فيه التكبير المطلق، فسن فيه التكبير المقيد، كالأضحى.
فعلى هذا: يكبر خلف ثلاث صلوات: المغرب، والعشاء، والصبح.
والثاني: لا يسن فيه التكبير المقيد؛ لأنه لم يُرو ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا عن أحد من الصحابة، بخلاف عيد الأضحى.

.[مسألة:تكبير الأضحى]

وأما التكبير في عيد الأضحى: فاختلف أصحابنا في وقته:
فقال أكثرهم: فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يبتدأ بالتكبير بعد صلاة الظهر يوم النحر، ويقطعه بعد صلاة الصبح من آخر يوم من أيام التشريق، فيكبر عقيب خمس عشرة صلاة مجموعة، وهو الصحيح. وروي ذلك عن عثمان، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وهو قول مالك، وأحمد.
ووجهه: أن الناس تبع للحاج، والحاج يقطعون التلبية مع أول حصاةٍ، ويكبرون مع الرمي، وإنما يرمون يوم النحر، وأول صلاةٍ بعد رميهم: صلاة الظهر يوم النحر، وآخر صلاةٍ يصليها الحاج بمنى: صلاة الصبح من آخر أيام التشريق.
والقول الثاني: أنه يكبر بعد المغرب من ليلة يوم النحر، قياسًا على عيد الفطر، ويقطعه بعد الصبح آخر أيام التشريق، فيكبر عقيب ثماني عشرة صلاة؛ لما ذكرناه من التبع للحاج.
والقول الثالث: أنه يكبر بعد الصبح من يوم عرفة، ويقطعه بعد العصر من آخر يومٍ من أيام التشريق.
وروي ذلك عن عمر، وعلي، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأبي يوسف، ومحمدٍ، واختاره ابن المنذر.
والدليل عليه: ما «روى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى صلاة الصبح يوم عرفة، ثم أقبل علينا، فقال: الله أكبر، الله أكبر، ومد التكبير إلى العصر من آخر أيام التشريق».
ومن أصحابنا من قال: هي على قولٍ واحدٍ، وأنه يكبر بعد الظهر يوم النحر إلى بعد الصبح من آخر أيام التشريق، والقولان الآخران حكاهما عن غيره.
قال المحاملي: ولا يأتي في الحاج إلا هذا القول؛ لأنهم قبل ذلك مشغولون بالتلبية والمناسك. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (يكبر بعد الصبح يوم عرفة إلى بعد العصر يوم النحر، لا غير).
وقال الأوزاعي، والمزني، ويحيى بن سعيد الأنصاري: (يكبر من الظهر يوم النحر إلى بعد الظهر من اليوم الثالث من أيام التشريق).
وقال داود: (يكبر من الظهر يوم النحر إلى بعد العصر آخر أيام التشريق)، وهو قول الزهري، وسعيد بن جبير، وروي ذلك عن ابن عباس.
دليلنا: ما ذكرناه للأقوال.
قال الصيمري: وما الأوكد في التكبير؟ فيه قولان:
أحدهما قال في القديم: (تكبير ليلة النحر آكد من تكبير ليلة الفطر).
والثاني: قال في الجديد: (تكبير ليلة الفطر آكد من تكبير ليلة النحر)؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185].

.[فرع: التكبير عقب الصلوات]

ويكبر في الأضحى خلف الفرائض في الأمصار والقرى المقيم، والمسافر، والرجل، والمرأة، سواء صلى في جماعة أو منفردًا.
وقال أبو حنيفة: (التكبير مسنون للرجال البالغين من أهل الأمصار إذا صلوا الفرض في جماعة، فأما أهل السواد والقرى والمسافرون، ومن صلى منفردًا... فلا يكبر، ومن صلى في جماعة فإنما يكبر عقيب السلام، فإن أتى بما ينافي الصلاة، مثل: أن تكلم، أو خرج من المسجد... لم يكبر).
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة: 200].
وقَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203].
وقَوْله تَعَالَى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} [الحج: 28].
فخاطب الله الحجيج بالتكبير، وهم مسافرون، ولأن كل من خوطب بالفرائض سن له التكبير، كأهل المصر إذا صلوا في جماعة.
ويسن التكبير المطلق في عيد الأضحى، وهو أن يكبر كل وقتٍ.
ويسن فيه التكبير المقيد، وهو أن يكبر خلف الفرائض.
والدليل على ذلك: نقل الخلف عن السلف، وهل يسن التكبير خلف النوافل؟ فيه طريقان:
من أصحابنا من قال: فيه قولان.
أصحهما: أنه لا يُسن؛ لأن النقل تابع للفرض، والتابع لا يكون له تبع.
والثاني: يسن؛ لأنها صلاة راتبة، فأشبهت الفرائض.
ومنهم من قال: يكبر، قولًا واحدًا؛ لما ذكرناه.
وإن صلى، وقام، ولم يكبر، ومشى خطواتٍ... فهل يكبر؟
قال أصحابنا البغداديون: يكبر كما يصلي السنن الراتبة بعد الفرائض بعد قيامه من مجلسه.
وقال الخراسانيون: هل يكبر؟ فيه قولان: بناء على أنه لو ترك سجود السهو، وسلم، وتطاولت المدة. هذا مذهبنا.
وقال مالك: (إن ذكره قريبًا... أتى به، وإن تباعد لم يأت به). وقد مضى ذكر مذهب أبي حنيفة.
دليلنا: أن التكبير مسنون في أيام التشريق، وهي باقية.

.[فرع: التكبير بعد القضاء]

قال أصحابنا الخراسانيون: إذا فاتته صلاة في أيام التشريق، فقضاها في أيام التشريق... كبر خلفها قولًا واحدًا.
وهل يكون قضاء أو أداء؟ فيه قولان، بناء على أنه هل يكبر خلف النفل؟
فإن قلنا: يكبر خلف النفل... كان التكبير خلف المقضية أداء؛ لأنها أولى بالتكبير من النفل.
وإن قلنا: لا يكبر خلف النفل... كان التكبير خلف المقضية قضاء.
فإن فاتته صلاة في غير أيام التشريق، فقضاها في أيام التشريق، فإن قلنا في التي قبلها: تكون أداء... فإنه يكبر هاهنا، وإن قلنا: يكون هناك قضاء فلا يكبر هاهنا.
وأما البغداديون: فقالوا: إذا فاتته صلاة في أيام التشريق، فقضاها في غير أيام التشريق، أو فاتته في غير أيام التشريق، فقضاها في أيام التشريق... لم يكبر خلفها، وجهًا واحدًا.
وإن فاتته صلاة في هذه الأيام، فقضاها في هذه الأيام... ففيه وجهان:
أحدهما: يكبر؛ لأن وقت التكبير باقٍ.
والثاني: لا يكبر؛ لأن التكبير خلف هذه الصلوات يختص بوقتها، وقد فات الوقت، فلم يُقض.

.[فرع: ألفاظ التكبير]

التكبير: هو أن يقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ثلاثًا نسقًا.
قال الشافعي: (وما زاد من ذكر الله تعالى... فهو حسن، وإن قال: الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، والله أكبر)؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ذلك على الصفا».
قال ابن الصباغ: والذي يقوله الناس، لا بأس به، وهو: الله أكبر، ثلاثًا، لا إله إلا الله، والله أكبر، ولله الحمد. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال صاحب "الإبانة" قيكبر ثلاثًا نسقًا، وهل يهلل معه؟ فيه قولان. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة، وأحمد: (يكبر مرتين).
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما صعد الصفا يوم النحر للسعي، قال: الله أكبر، الله أكبر ثلاثًا نسقًا». ثم ذكر الدعاء الذي ذكرناه.
قال الشافعي: (فثبت أن التكبير المسنون هذا؛ لأنه يوم عيد).
قال في: "الإبانة" [ق -102] إذا اقتدى بإمامٍ لا يرى التكبير... فهل يكبر هو؟ فيه وجهان، حكاهما ابن سريج:
أحدهما: يكبر؛ لأنه قد خرج من متابعته بالسلام.
والثاني: يتابعه في تركه. وبالله التوفيق

.[باب صلاة الكسوف]

قال الأزهري: يقال: خسفت الشمس، وخسف القمر: إذا ذهب ضوؤهما، ومنه قَوْله تَعَالَى: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} [القيامة: 8].
ويقال أيضًا: كسفت الشمس، وكسف القمر: إذا ذهب ضوؤهما.
وقال بعضهم: كسفت الشمس: إذا تغطت، ومنه قول الشاعر:
الشمس طالعة ليست بكاسفة ** تبكي عليك نجوم الليل والقمرا يعني: الشمس طالعة ليست مغطية نجوم الليل والقمر.

والأصل في صلاة الكسوف: قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} [فصلت: 37].
قال الشافعي: (فاحتملت الآية معنيين:
أحدهما: أنه أمرنا بالسجود له، ونهى عن السجود للشمس والقمر.
والثاني: أنه أمر بالسجود له عند حادث يحدث فيهما)، وهذا أظهر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى عند حدوث الحادث بهما.
وروى الشافعي بإسناده عن أبي مسعود البدري: أنه قال: «كسفت الشمس يوم مات إبراهيم ابن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال الناس: إن الشمس انكسفت لموته، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك... فافزعوا إلى ذكر الله، والصلاة».
والسنة: أن يغتسل لها؛ لأنها صلاة شرع لها الاجتماع والخطبة، فسن لها الغسل كالجمعة، وينادى لها: (الصلاة جامعة)؛ لما روي عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: أنها قالت: «كسفت الشمس، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلًا، فنادى: الصلاة جامعة، وصلى حيث يُصلي الجمعة»؛ لأنها قد تتفق في وقت لا يُمكن قصد المُصلى فيه.

.[مسألة:مشروعية صلاة الكسوف للجميع]

ويجوز فعلها للمقيم والمسافر، في الجماعة والانفراد.
وقال الثوري، ومحمد بن الحسن: لا يجوز فعلها على الانفراد.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا رأيتم ذلك... فافزعوا إلى ذكر الله، والصلاة». ولم يفرق.
وروى صفوان بن عبد الله، قال: (رأيت ابن عباس يصلي على ظهر زمزم صلاة الخسوف).
قال الشافعي: (فيحتمل ذلك ثلاثة معانٍ:
أحدها: أن يكون الإمام غائبًا، فصلاها ابن عباس منفردًا.
والثاني: يحتمل أن الإمام لم يفعلها، ففعلها ابن عباس لنفسه.
والثالث: يحتمل أن يكون ذلك وقتًا منهيًا عن الصلاة فيه، وكان الإمام ممن يرى أنها لا تصلى في الوقت المنهي عنه، ففعلها ابن عباس).
ويستحب فعلها للنساء مع الإمام؛ لما روي عن أسماء بنت أبي بكر: أنها قالت: «كسفت الشمس، فقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قيامًا طويلًا، فرأيت المرأة التي هي أكبر مني والتي هي أصغر مني قائمة، فقلت: أنا أحرى على القيام».
وإنما يستحب ذلك لغير ذوات الهيئات، فأما ذوات الهيئات فيصلين في البيوت منفردات.
قال الشافعي: (فإن جمعن... فلا بأس، إلا أنهن لا يخطبن؛ لأن الخطبة من سنة الرجال، فإن قامت واحدة منهن، ووعظتهن، وذكرتهن، كان حسنًا).

.[فرع: الجهر في خسوف القمر]

ويُصلي لخسوف القمر، كما يُصلي لخسوف الشمس، إلا أنه يجهر في صلاة خسوف القمر، ويُسر في صلاة خسوف الشمس.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (يصلي في خسوف القمر فرادى، ويكره أن يصلي جماعة).
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك... فافزعوا إلى ذكر الله والصلاة»، ولم يفرق.
ولأنها صلاة خسوف، فكان من سننها الجماعة، ككسوف الشمس.
والدليل على الإسرار والجهر: ما روي عن ابن عباس: أنه قال: «كسفت الشمس، فقام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي، فقمت إلى جنبه، فلم أسمع له قراءة».
وأما صلاة خسوف القمر: فلأنها صلاة ليل لها نظير بالنهار، يسن في نظيرها الإسرار، فسن فيها الجهر كالعشاء.

.[مسألة:كيفية صلاة الكسوف]

وكيفية صلاة الكسوف: أن ينوي صلاة الكسوف، ويكبر، ثم يقرأ دعاء التوجه، ثم يتعوذ، ويقرأ بأم الكتاب، وبسورة البقرة، إن كان يحفظها، أو بقدرها من القرآن إن كان لا يحفظها، ثم يركع، ويسبح بقدر قراءة مائة آية من سورة البقرة، ثم يرفع رأسه، ويستوي قائمًا، ويتعوذ، ويقرأ بفاتحة الكتاب وبقدر مائتي آيةٍ من سورة البقرة، ثم يركع، ويسبح، قال الشافعي: (بقدر ثلثي الركوع الأول). وروي عنه: (بقدر ما يلي الركوع الأول)، يعني: دونه بقليل.
قال أصحابنا: وهذا أصح.
وقدره الشيخ أبو إسحاق بقدر سبعين آية، وقدره الشيخ أبو حامد بقدر ثمانين آية من سورة البقرة، ثم يسجد كما يسجد في غيرها.
وقال أبو العباس بن سريج: يطيل السجود كما يطيل الركوع، وليس بشيء؛ لأنه لم ينقل ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولو فعله... لنقل كما نقل في الركوع.
ثم يقوم إلى الركعة الثانية، فإذا استوى قائمًا... قرأ الفاتحة، ثم يقرأ بعدها بقدر مائة وخمسين آية من سورة البقرة، ثم يركع، ويسبح فيه بقدر قراءة سبعين آية من سورة البقرة. هكذا قال عامة أصحابنا.
وقال أبو علي في "الإفصاح": يسبح فيه بقدر خمس وسبعين آية. قال أصحابنا: وهذا يدل على أن الصحيح: أن التسبيح في الركوع الثاني في الأولى يلي التسبيح الأول فيها؛ لأن السبعين أكثر من ثلثي المائة، وبناء هذه الصلاة: أن الفعل الثاني أخف من الفعل الذي قبله.
قلت: وهذا يدل على أنه يسبح في الثاني من الأولى بأكثر من قدر السبعين آية؛ ليكون أكثر مما بعده؛ لتقع الصلاة على نظم واحد.
ثم يرفع رأسه من الركوع، فإذا استوى قائمًا قرأ الفاتحة، وقرأ بعدها قدر مائة آية من سورة البقرة، ثم يركع، ويسبح بقدر قراءة خمسين آية من سورة البقرة، ثم يسجد سجدتين. هذا قول الشافعي المشهور.
وقال في رواية " البويطي ": (يقرأ في القيام الأول في الركعة الأولى سورة البقرة، وفي الثاني منها سورة آل عمران، وفي الأول من الثانية سورة النساء، وفي الثاني منها سورة المائدة).
قال أصحابنا: وهذا قريب من الأول. هذا مذهبنا، وبه قال عثمان، وابن عباس من الصحابة، ومن الفقهاء: مالك، وأحمد.
وقال الثوري، والنخعي، وأبو حنيفة: (يصلي صلاة الخسوف، كصلاة الصبح).
وروي عن حذيفة: (أنه ركع في صلاة الخسوف ست ركعات، وأربع سجدات).
وروي عن علي: (أنه ركع خمس ركعات وسجد سجدتين، ثم فعل في الركعة الثانية مثل ذلك، وقال: ما صلاها أحد بعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غيري).
ومن الناس من قال: الأخبار ثابتة في الكسوف في كل ركعة: ركوعان، وثلاث، وأربع، وله أن يفعل أيها شاء. واختاره ابن المنذر.
دليلنا: أن ابن عباس، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رويا: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى صلاة الخسوف ركعتين، في كل ركعة ركوعان». فذكرا نحوًا مما قلناه.
قال في "الإبانة" [ق 102] إذا امتد الخسوف، وهو في الصلاة... فهل يزيد ركوعًا آخر؟ فيه وجهان:
أحدهما: يزيد، ولو امتد عشر ركعاتٍ، إلى أن ينجلي، وعلى هذا يُحمل ما ورد من الأخبار في الزيادة على ركوعين.
والثاني -وهو طريقة أصحابنا البغداديين، وهو الأصح -: أنه لا يزيد؛ لأن الأخبار في الزيادة على ركوعين غير صحيحة.
قال في "الإبانة" [ق 102 -103] فإن تجلى الكسوف، وهو في القيام الأول... فهل يتجوز، ويقتصر على ركوع واحدٍ؟
إن قلنا: يزيد ركوعًا إذا امتد الخسوف... اقتصر -هاهنا- على ركوع واحدٍ.
وإن قلنا هناك: لا يزيد... لم يقتصر هاهنا.
قال في "الإبانة" [ق 103] وإن فرغ من الصلاة، ولم يدخل الكسوف... فهل يعود إلى الصلاة؟
إن قلنا: يزيد ركوعًا لو امتد الخسوف... عاد إلى الصلاة.
وإن قلنا: لا يزيد ركوعًا... لم يعد إلى الصلاة.
والوجه المذكور في "الإبانة" في زيادة الركوع غريب، وما يفرع عليه.